بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ رَبِّ العالمينَ ، والصلاةُ والسلامُ على سيدِنَا محمدٍ المبعوثِ رحمةً للعالمين ، وعلى آلهِ وصحابتهِ أجمعينَ ، والتابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
أَمَّا بَعْدُ ، فقد مَنَّ الله تعالى عليَّ بالإقامة في مكة والمدينة في شهر رمضان ، وصَلَّيْتُ أكثر الصلوات في الحرمين الشريفين ، وبعضها في مساجد أخرى ، ولَفَتَ نظري وأثارَ دهشتي غَلَبَةُ النطق بالنون المُخْفَاةِ بطريقة خاصة ، أحسبُ أَنَّ نصوص العلماء في كتبهم ، وأداءَ شيوخ الإقراء الأوائل في مصر وغيرها لا تتوافق معها ، وتتلخص تلك الطريقة بوضع مقدَّم اللسانِ شاخصاً تجاه اللثة من غير انطباق مع جريان النفس من الخيشوم ، وذلك عند النطق بالنون المخفاة عند حروف الإخفاء الخمسة عشر.
وكنتُ قد بحثتُ موضوعَ إخفاءِ النون في عدد من أعمالي العلمية السابقة ، ودعوتُ إلى الاعتناء بهذا الموضوع ، والتوثق من طريقة إخفاء النون ، وكنتُ أتوقع أن يتجه أداء القراء إلى اختيار الطريقة الراجحة بل الصحيحة في نطق النون المُخْفَاةِ ، وتتلخص في وضع اللسان في مخرج الحرف الذي تُخْفَى عنده النون ، مع بقاء جريان النَّفَسِ من الأنف ، حتى تستوفي النون حقها من النطق ، ثم يُنْطَقُ بالحرف التالي لها من غير أن يحتاج القارئ إلى نقل لسانه ، لكني وجدت أن الغالب على قراء الحرمين الشريفين هو النطق بالنون المُخْفَاةِ بجعل اللسان شاخصاً تجاه اللثة ، مع بقاء الغنة من الأنف ، وهو ما جعلني أكتب هذه الكلمة للتذكير بالموضوع من جديد ، حتى لا يُنْسَى النطق الصحيح ، ويشيع النطق غير الصحيح.
ولست في هذا المقام بصدد الحديث المفصل عن الموضوع ، فقد بحثته في رسالتي للدكتوراه (الدراسات الصوتية عند علماء التجويد) منذ سنة 1985م (ص 377-387 ط2) ، وفي بحثي (إخفاء النون : حقيقته الصوتية وطريقة أدائه لدى القراء المعاصرين) المنشور في كتابي (أبحاث في علم التجويد) سنة 2002م (ص 107-133) ، وفي شرحي الكبير على المقدمة الجزرية الذي صدر سنة 2008م (ص 465-490) ، وفي كتابي (الميسر في علم التجويد) الذي صدر سنة 2009م (ص 98- 101) ، وفي كتابي (أهمية علم الأصوات اللغوية في دراسة علم التجويد) الذي صدر سنة 2014م (ص 107- 119) ، وفي مواضع ومناسبات أخرى.
وانتهيت من بحوثي السابقة لطريقة النطق بالنون المخفاة إلى ترجيح المذهب الذي يتلخص في وضع اللسان في موضع الحرف الذي تُخْفَى عنده النون ، وكلما مرت الأيام وازداد نظري في الموضوع ، وتأملي لأداء القراء المعاصرين ، تأكد عندي صحة هذا المذهب ، وقَوِيَ في نفسي القول بخطأ المذهب الآخر ، الذي يمكن أن يَحُطَّ من رونق القراءة وجمالها من جانب ، ويزيد على أصوات القرآن الكريم وأصوات العربية – من جانب آخر - صوتاً مخترعاً لم يرد له ذكر في كتب المتقدمين من علماء العربية وعلماء القراءة والتجويد.
وقد يكون الموضوع بحاجة في نفوس بعض القراء إلى مزيد من البحث والبيان ، لكني أكتفي الآن بهذه الكلمة ، لعلها تجد آذاناً صاغية وقلوباً واعية ، فتدعو إلى مراجعة الموضوع ، للتأكد من صحة ما أقول به وأدعو إليه ، فالأمر يستحق بذل الجهد وصرف الأوقات ، لتعلقه بتلاوة القرآن الكريم الذي حافظ المسلمون على طريقة أدائه طوال القرون الماضية ليصل إلينا غضاً طرياً.
ولا يخفى عليكم أن صوت النون المخفاة يتكرر في القرآن الكريم كثيراً ، ولا تكاد تخلو آية من مثال منه أو أكثر ، وقد يكون النطق بالصوت المخترع للنون المُخْفَاةِ سبباً لانحراف الأداء إلى ما يُخِلُّ برونق القراءة أو قد يؤدي إلى تحريف الألفاظ ، ولو تفضل علينا أصحاب النطق بهذا الصوت المخترع وجربوا نطق النون المُخْفَاةِ الصحيحة ، لوجدوا ذلك أخف على ألسنتهم ، وأرق وقعاً في آذان سامعيهم ، وأوضح في أداء الألفاظ على وجهها وتأديتها معانيها ، من النطق بذلك الصوت الغريب على العربية وقراءة القرآن الكريم.
وآمل أن أتمكن من العودة لعرض الموضوع بكل تفصيلاته في قادم الأيام ، إن أمد الله تعالى في العمر ، وبارك في الوقت ، وأتم الصحة والعافية ، حتى يتبين الحق لمن خفي عليه الأمر ، ولم يجد ما كتبته فيه كافياً ، ولكني أكتفي الآن بهذه الكلمة ، عسى أن تكون مقبولة لدى ثلة من أهل الاختصاص ، فينهضوا بأعباء هذه المهمة ، بتجديد البحث فيها ، وبإشاعة النطق بالوجه الصحيح لإخفاء النون في تلاواتهم وأدائهم للقرآن الكريم ، ليحتذيه غيرهم من أهل الاختصاص ومن المتعلمين.
في الختام أقول : أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ ، اللهُمَّ فاشْهَدْ !
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحابته أجمعين
والحمد لله رب العالمين
مكة المكرمة
26/رمضان/1437هـ
القسم:
مقالات
التاريخ:
01 يوليو
2016
لايوجد تعليقات